الامتيازات الجيدة كمحفز سيء للموظف


✏️محمد المؤذن
مختص نفسي اجتماعي
موجه عقلي سلوكي ومهني

قد تتألم عند قراءتك هذا المقال ولكنك سوف تتعلم

شاع في السنوات الأخيرة استخدام مصطلح الرفاه والعافية والصحة النفسية Mental Health & Wellbeing فيما يتعلق بالعمل. وهو يشير إلى عمل الموظف في بيئة خالية من الضغوط النفسية والجسدية والمليئة بالدعم النفسي للموظف.
إلا أن استخدام الرفاه الوظيفي هذا في أغلب المؤسسات يتركز على توفير امتيازات وظيفية للموظفين تشبع رغبات جسدهم، أكثر من كونه دعماً وتعزيزاً لصحتهم النفسية. وهو ما يلقي الضوء على أحد أهم مكامن الضعف حين محاولة تطبيق مفهوم الصحة التكاملية في العمل لدى بعض المؤسسات.
ويأتي ضعف وعدم فاعلية أثر تطبيق ذلك المفهوم بسبب أن الامتيازات التي تقدم للموظفين تعمل بمثابة نظام مكافأة خارجي – محفز خارجي Extrinsic Motives يلامس رغبات جسد الموظفين والجوانب السطحية من ذواتهم ونظامهم النفسي فقط، وليس عمق حاجاتهم النفسية الحقيقية، مما يؤدي إلى أن تعمل تلك المكافآت والامتيازات كمحفز مؤقت – مسكن – وحسب لا يتجاوز أثره أيام قليلة ومن ثم يعود أداء الموظف إلى سابق عهده. فالدراسات النفسية تشير إلى أن أثر المحفز الداخلي الذي ينبع من ذات الموظف أكبر من ذلك الأثر الخارجي المفروض عليه. فقد أثبتت الدراسات العصبية أن استدامة تنشيط مناطق اللذة في الدماغ حين يكون المحفز ذاتي داخلي Intrinsic Motives أطول في مدتها وأعمق في أثرها من التنشيط الذي يحدث بسبب محفز خارجي. فالأول جاء برغبة من الموظف ذاته، وهو ما يشعره بالسعادة والسيطرة على قراراته وذلك هو “الإلهام” Inspiration للموظف. بينما الثاني جاء برغبة مسئوليه والتي تفقده إرادته والشعور بالسيطرة على ذاته وقراراته، وذلك هو “التحفيز” Motivation. ولذلك فإن المطلوب دائماً هو الإلهام وليس التحفيز.
ومعروف بأن إحدى الحاجات النفسية للإنسان تكمن في حاجته إلى الشعور بالسيطرة على حياته وذلك يتحقق عن طريق إلهام الموظف وليس تحفيزه.
هذا وكما أن المكافآت مهما كانت كبيرة ومجزية فإنها تُترجم تحت حاجز الوعي في عقل الموظف على أنها رشوة من المؤسسة أو المسئول لتُسّخر طاقته وتُستّغل لصالح المؤسسة، وتلك هي عملية لا واعية تجعل من الموظف مسروراً من الخارج، ولكنها في الوقت ذاته تؤذيه من الداخل ولها عواقب مستقبلية وخيمة على الموظف ذاته وكذلك على المؤسسة.
وبطبيعة الحال فإن التقدير المادي للموظف هو مهم ليشعر بأن المؤسسة تقابل جهده باهتمام عبر مكافأة هذا الجهد من خلال الراتب الجيد والامتيازات الأخرى. إلا أن غياب العناية بالجانب النفسي وتوفير الاهتمام بالجانب المادي فقط لا يؤدي إلى رفاه نفسي للموظف. فتأثير المكافأة المادية مؤقتاً ويؤدي إلى الإدمان لأن نظام التوقع في عقل الموظف سوف يعمل بطريقة يتوقع من خلالها الحصول على المزيد من المكافآت فيكون عطاءه في العمل مشروطاً بمدى مكافأته، فإن توقفت المكافأة سوف يتوقف عطاءه حيث بُنِي هذا العطاء على أساس مادي خارجي وليس على أساس نفسي داخلي ذاتي.
وإذا ما تحدثنا عن الحلول الناجعة لهذه القضية الشائكة فإن الحل يكمن في أن تقوم المؤسسة بعملية توفيق وتوافق بين الذات المثالية للموظف وذاته الواقعية ليتعافى نظامه النفسي ويستقر. ولكن ماذا يعني مثل هذا الكلام؟
يمتلك كل منا في نظامه النفسي ذات مثالية هي ما يطمح إلى تحقيقه في الحياة. وكذلك ذات أخرى واقعية تتمثل في ما يقوم به وما يمتلكه الآن. وتتحقق الصحة النفسية حينما تتوافق كل ذات مع الأخرى بحيث أن ما تنجزه الذات الواقعية من عمل الآن يؤدي إلى نتائج لتحقيق طموحات ذاته المثالية في المستقبل، وهو ما يؤدي إلى الرفاه والعافية النفسية للموظف إذا ما تمكنت المؤسسة التي يعمل فيها من إحداثه بدلاً من المكافآت المادية التي تلبي حاجات الجسد فقط من لذة ولكنها لا تلبي الحاجات الروحية النفسية المعنوية.
ولكي تضمن المؤسسة نجاحها في إحداث مستوى عال من التوافق داخل النظام النفسي للموظف لغرض تحقيق الصحة النفسية لدى الموظفين فعليها أن تقوم بما يلي:
١.اكتشاف القيمة العليا لكل موظف: تمثل القيمة العليا جانب الذات العليا المثالية والتي تعبر عن الجانب الروحي للموظف. فكلما سعت المؤسسة لتلبية القيمة العليا للموظف والتي هي شغفه الأول، كلما حققت إندماجاً وإدماجاً Engagement له أكبر في العمل. فما أجمل من أن يمارس الشخص شغفه في العمل ليرضي ذاته وروحه بعمل يلامس أعماق هذه الذات ورغباتها الروحية. وهنا تأتي أهمية أن تربط الشركة القيمة العليا للموظف بقيمها وطبيعة العمل فيها، لا أن تفرض عليه الالتزام بقيمها فتفقده الشعور بالسيطرة على حياته، مما يؤدي إلى ألا يعطي لذاته ولا للمؤسسة التي يعمل فيها. هذا إلى جانب أن ممارسة عمل ما مرتبط بالقيمة العليا يضمن سعادة الموظف في العمل لأنه في الوقت الذي يمارس فيه عمله، فإنه يرضي ذاته ويشبع رغباته الحقيقية المرتبطة بروحه وليس بجسده فقط. ومعروف بأن رغبات الجسد هي سطحية، بينما رغبات الروح هي عميقة وتعبر عن الذات الأصيلة للإنسان، وهو ما يؤدي بالتالي إلى رضاه عن العمل الذي يقوم به. والنتيجة النهائية هي الإنجاز والعطاء والإنتاج بإبداع وابتكار لأن الرضا الذاتي عن العمل من شأنه أن يُنشط مناطق التفكير والإبداع في الدماغ. ولنا أن ننظر كم حجم وعدد الفوائد المترتبة للمؤسسة من هذا الأمر.
٢.العناية بعقل الموظف: وكما هو معروف بأن جميع مشاكل الإنسان تكمن في عقله وفي المقابل فإن حلول هذه المشاكل تكمن كذلك في العقل. وهنا تأتي الأهمية البالغة للحياة العقلية للموظف وأهمية العناية بها، فالعقلية المشوشة المضطربة تؤدي إلى سلوك غير سوي. وقد يتمثل اللاسواء السلوكي في أبسط صوره إذا ما تحدثنا عن الموظف في عدم الإنتاجية أو انخفاضها. ولكن في صوره المعقدة والحادة فهو يعني اضطراب العلاقات والمشاكل السلوكية وعدم الانضباط المهني والهدر الوظيفي ومشاكل أخرى في العمل. ولذلك حينما نتحدث عن رعاية المؤسسة لعقل الموظف فإننا نتحدث عن أهم مدخلين هامين للتعامل مع عقلية الموظف، أولهما فهم المسئولين لكيفية عمل العقل كون العقل هو المحرك للسلوك البشري ليتبعوا أفضل الأساليب في إدارة سلوك الموظفين. وثانيهما هو تدريب المسئولين والموظفين على استخدام أدوات واستراتيجيات إدارة العقل ليتحكموا في سلوكياتهم ويوجهوها نحو الوجة التي تخدمهم هم شخصياً، وكذلك العمل أيضاً فتعطي الشركة عناية عقلية للموظف فيبادلها هو الاهتمام النابع من قلبه وليس المفروض عليه. وتلك هي أفضل حالات التكامل بين المؤسسة والموظفين.
٣.ربط أهداف الموظف بأهداف الشركة: إنه لأمر بالغ الأهمية أن يستشعر الموظف بأنه حينما يمارس عمله لتحقيق أهداف الشركة، فإنه في الوقت ذاته يمارس عملية تحقيق لأهدافه الشخصية والمهنية والحياتية. فكم مؤسسة توصل رسائل للموظفين من قبيل اعملوا لتحققوا أهدافكم؟ إننا نرى في الحقيقة أن المؤسسات تتحدث دائماً عن أهدافها، وأن على الموظف أن يساهم في تحقيق أهداف الشركة ورؤيتها ببذل أكبر طاقاته الذهنية والبدنية مما يوصل رسالة للموظف بأنك تعمل لتخدم الشركة وحسب، ولكن الشركة لا تعمل لخدمتك. وتلك رسالة سيئة وذات أثر سلبي وموجع نفسياً بأن يشعر الموظف أن الشركة تستغله لكونها مصدر رزقه، وأن المسئولين يسعون لتحقيق أهدافهم الشخصية والمهنية على حساب حياته وصحته النفسية وأهدافه المهنية والحياتية. وهنا تأتي أهمية تبني خطط ترمي إلى دمج أهداف الموظف مع أهداف المؤسسة ليستشعر بأنه جزء من المؤسسة، وأن المؤسسة داعمة لأهدافه وحياته، مما يولد لديه حالة قصوى من الشعور بالولاء والانتماء والإخلاص للمؤسسة التي يعمل فيها. وهنا تتحقق سعادة الموظف فيبذل جهداً مضاعفاً بشكل طوعي غير مجبور عليه في العمل.
إن ذلك قليل من كثير مما يمكن الحديث حوله في موضوع كهذا. ولقد طرح فريق “كوكبة إكسير الحياة” العديد من الاطروحات في هذا الصدد في كتاب “روح المؤسسة” الذي صدر مؤخراً والذي يتناول الكثير مما يهم مالكي المؤسسات ومسؤوليها وكذلك موظفيها، حيث دارت هذه الاطروحات حول تقنية VMG العلمية التي تحقق توافقاً وتكاملاً بين المؤسسة وموظفيها ليتحقق الرخاء والازدهار والتطور للمؤسسة من خلال تحقيقها الرفاه والصحة النفسية التكاملية للموظفين.

*ساهم في نشر هذا المقال لتتحقق رسالة سامية نتكامل فيها معاُ خدمة للبشرية.

لمتابعة حساب الكاتب على الانستجرام @MOHD_ALMOATHEN